سيدات القمر



هذه الرواية الجميلة والمتدفقة بسلاسة وحميمية جعلتني أطوي الصفحات سريعا، دون شعور، ودون رغبة بالوصول للنهاية.
ورغم الفترة القصيرة التي أمضيتها مع الشخصيات، لكن العلاقة تخلق معهم وتتوطد عبر عشرات التفاصيل الصغيرة، لما هم عليه، لشكل حياتهم، لمنازلهم التي تدخل إليها وتعرف تفاصيلها، لطعامهم الذي تأكله معهم، وأحاديثهم التي تشاركهم إياها، مشاعرهم ومخاوفهم، وصراعاتهم من أجل الحب.

تقول جوخة الحارثي في روايتها هذه الكثير، عن الانسان، وعن عمان، وعن شكل الحياة المتغيرة ببطء عبر أجيال متعددة. تتعدد شخصياتها الغزيرة، وتتشابك مصائرهم، وتمنح لكل منهم مساحته الخاصة، لكننا نكون أقرب لعبدالله الذي يتناوب سرد الحكاية في بعض الفصول، عبر استعادة الذكريات، مع راوٍ يمر على بقية الشخصيات ويخبرنا بقصصها المتشابكة. تبدأ الحكاية من زواج ميا وعبدالله، في وقت ما من بداية الثمانينات، انجابها طفلتها الأولى لندن وذهابا إلى الوقت الذي تعرف فيه لندن الحب والزواج. لكنها تتداعى في ماض أقدم يمتد مئة عام إلى الوراء لتعود بحكايا الآباء والأجداد. تكبر القصص عبر عبدالله وميا لتخبرنا عن عائلتيهما. نتابع مصائر الشخصيات النسائية العديدة والمتنوعة في أنماط تفكيرها وعاطفتها، أمهات وبنات وحفيدات، التي اقتربت وابتعدت عن أشكال مختلفة من الحب. من أسماء المحبة لقراءة التراث، إلى خولة التي بدت كمدام بوفاري أخرى: التأثر بالروايات العاطفية فوق ما يلزم لحياة طيبة. قد تكون تحولات الحب عند خولة أحدى أكثر القصص تأثيرا بالنسبة لي في هذه الرواية. ولا تخلو الرواية من شخصيات رجالية مؤثرة لكن الحضور النسائي طاغ فيها.

يتصاعد الزمن في بعض الفصول بإتجاه المستقبل، ويعود للماضي عبر الذكريات، ويكشف ومضات من المستقبل مقدما في سياق الحاضر. وشيئا فشيئا تكشف الرواية عن أسرارها وعن صورتها الكاملة، كقطع بازل تلتصق ببعضها وتصنع شكل الحياة.

الرواية غنية بالتفاصيل الوصفية: للمكان، القرية ”العوافي“، المنازل و الأثاث، الأدوات والملابس، العادات والمعتقدات، طبيعة حياة الناس وتعاملهم مع المناسبات المختلفة: الزواج، الموت، الانجاب، و شكل العلاقات المختلفة التي تجمعهم، آباء وأبناء وأخوان و أزواج وجيران، سادة وعبيد، لكن كل هذه التفاصيل مزروعة بسلاسة وعفوية سردية تفادت الوقوع في مطب التقرير واحتفظت بروح الرواية. كذلك نجد السرد يتضمن العديد من الأمثال الشعبية على لسان ”ظريفة“ والشعر العربي على لسان بعض الشخصيات. وأفهم كيف يمكن لهذه الرواية أن تكون بوابة للإطلاع على عالم ”عمان“ فيما قبل المدنية المعاصرة.

تخبرنا الرواية عن شكل الثراء وأسبابه مشيرة إلى تجارة السلاح وتجارة الرقيق. وتخبرنا أيضا عن الجوع والفقر. يشكل العبيد جزء مهما من شخصيات الرواية، التي تحكي مشاهد من حياتهم، وعلاقتهم بالسادة الذي يتنقلون بين بيوتهم بيعا وشراء، بخاصة عبر حياة ظريفة التي كانت الأم الوحيدة التي عرفها عبدالله، وظل ممزقا بين كونها مجرد عبدة، لكنها عبدة والده الأثيرة، والصدر الأمومي الوحيد الذي عرف. ظريفة التي وُلدت عبدة ولا تعرف بيتا ولا وطنا غير العوافي، فلا تستطيع أن تفهم تمرد ابنها ولا حاجته للهجرة إلى بلاد أخرى يبدأ فيها حياة حرة من جديد. نرى كيف يلد العبيد عبيدا، وكيف يتغير حال الجيل الجديد من أبناء العبيد بعد إلغاء الرق، لكن المجتمع ونظرته الطبقية لا يتغير كثيرا.

يتقلب المسار السردي على لسان عبدالله بين ذكرياته الشائكة لعلاقته مع والده، وهذيانه وتردده بين الحلم واليقظة تحت وطأة آلام ماضيه وحاضره، ضحك ميا ردا على حبه لها، قسوة والده التي لم يشف من جروحها، والتزامه ببره الذي يأخذه في مشاوير طويلة بين العوافي ومسقط، ثم كيف يعود ليشبه والده في علاقته مع ابنه بالذات.

تسرد الرواية أيضا على هامشها، بعض التحولات السياسية التي أثرت في مصائر الشخصيات، النزاع الحربي بين السلطنة والإمامة في بداية القرن الماضي، وكيف تزحف المدنية والعادات الجديدة على عادات القرية، بخفاء تخطيط الفتيات السري لإضافة عناصر جديدة لجهاز العروس الذي أعدته الأم.

إن كان من شيء كان يمكن أن يجعل الرواية أجمل، فهو المزيد من التكثيف لبعض الشخصيات (خولة، العلاقة بين ميا والطفل محمد مثلا) التي استحقت المزيد من المساحة والضوء، لكن تزاحمها لم يمنحها الفرصة.

لقد استمتعت بالرواية، بالحيوات التي سردتها، والشخوص التي شعرت بها قريبة وحميمة واهتممت بها، وبالتقنيات والتنقلات التي رسمت القصة بجمال واحتفظت بما تضيفه للصورة حتى النهاية.


اقتباس من الرواية:

(أرادت أن تقول له: كان أي شيء سيكفيني، أي شيء سيملأ حقل قلبي بالثمار النافعة.
أي شيء سيملأ السلال الممدودة لك وحدك.
أي شيء: رسالة ورقية من كلمة واحدة.
رنة بعد منتصف الليل، منام خاطف لا تولي فيه ظهرك، خطوة صغيرة واحدة، التفاتة بطيئة واحدة.
أي شيء.
حتى زمجرة غضب، حتى تنهيدة ضجر، حتى هدنة رخيصة.
أي شيء كان كثيرا.
لكن أي شيء لم يأت.
أي شيء.
والآن، كل شيء لا يكفي. كل شيء أقل من أن يبرعم ورقة واحدة في حقل صعقه الشتاء.)



الكتاب: سيدات القمر (رواية)
الكاتبة: جوخة الحارثي
الناشر: دار الآداب

تعليقات